المحمود والأمين والعالم - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني

 
المحمود والأمين والعالم
حامد الحلبي – 18\05\2011

مساء يوم الجمعة 09\01\2009، عندما اتصلت به من دمشق للاطمئنان على صحته، ولم أكن أعلم أنها ستكون مكالمتي الأخيرة معه، ولعلها الأخيرة في حياته أيضاً!! حيث توفي في صباح يوم السبت في الساعة السابعة صباحاً، بعد حوالي عشر ساعات على تلك المكالمة... التي للأسف الشديد ودون أن أدري – كانت مكالمته الوداعية. أهي المصادفة العجيبة!! وهنا أتذكر حديثة الممتع والعميق حول (فلسفة المصادفة) الذي سمعته منه في القاهرة – ونحن نتحدث في جلسة طويلة ممتعة في كافيتيريا "الملس الأعلى للثقافة" – قبل سنوات عديدة، وكان حديثه من أعمق ما عرفته عن هذه الفلسفة... وكنت مقبلاً على الحياة ومتفائلاً -كعادتك- .. ولا أنسى كلماتك عند سؤالي عن صحتك، إذ قلت "لا... أنا أتقدم وأقرأ الصحف وبعض الكتب، وبدأت أتحرك وأشاغب"!!

فيا أستاذنا الكبير... لطالما كنت تردد قولك المشهور (شاغبوا تصحوا)!!.. تلك المشاغبة التي تفضح الخطأ، وتثور على الظلم، وتحمل مشعل الحرية، والحب العميق للوطن والناس، ومستقبلهم المشرق.. كم نحن بحاجة إلى مثل هؤلاء (المشاغبين)...

لقد عرفت محمود أمين العالم من خلال كتاباته في الصحف والمجلات، وخاصة (المصرية)، التي كانت تصل إلى دمشق في أواسط الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، عندما بدأنا - في بداية شبابنا- نتلمس طريقنا إلى حمل الهم الوطني والقومي العام، ونسعى للتقدم والعدالة الاجتماعية... وبعد ذلك بسنوات قرأت كتابه (الانسان موقف) وكان له تأثير كبير على بلورة أفكاري، والتركيز على ما هو جوهري وأساسي من الأمور، بعد أن أصبت بهزة مزلزلة بسبب هزيمة عام 1967.. وبقينا بعد ذلك نتابع إنتاجه الفكري ومواقفه النضالية الصلبة، وخاصة كتاباته في مجلة (اليسار العربي) وغيرها من الدوريات..

وكم كانت سعادتي كبيرة أن التقيته في القاهرة قبل أكثر من عشر سنوات، وذهبت لأحضر أمسية شعرية في دار الأوبرا المصرية (المسرح الصغير). وقبل موعد الأمسية، رأيته وسلمت عليه وعرفته بنفسي، وذكرت له متابعتي لإنتاجه وكتاباته، وما قرأت منها، وتأثري الكبير بما كتب، فرحب بي كثيراً، ودخلنا سوية إلى الأمسية، وأصر أن أجلس معه في الصف الأول من المقاعد المخصص لكبار الكتاب والأدباء والمدعويين، فاعتذرت.. وبعد إصرار مني تركني أجلس وراءه في الصف الثاني... وبعد الأمسية، تابعنا حديثنا وأصر أن نتواصل دائماً..

بقيت بعدها –حتى خريف 2006- أذهب كل عام إلى القاهرة، في عمل يتعلق بالبرامج التعليمية والثقافية في التلفزيون. وكنت حريصاً في كل مرة أن أتصل به ونتواعد على اللقاء، وكم كان كريماً في إعطائي الساعات الثمينة من وقته وحديثه، وفكره العميق المبدع، وديمقراطيته في الحوار، وتقبله للرأي الآخر.

لا يغيب عن البال تواضعه العظيم والتلقائي، تواضع المفكر الكبير ذي الاحساس الديمقراطي الإنساني العميق، ولا أنسى جوابه المتكرر عندما كنت أقول له: أني تعلمت كثيراً من كتاباتك، والأكثر من لقاءاتك وسيرة حياتك، فكان يجيب: (أنا أتعلم من الشباب دائماً).

عندما علم أني من الجولان المحتل، وأهلي ما زالوا هناك مع بقية المواطنين العرب السوريين الصامدين فيه، يقاومون الاحتلال بكل امكانياتهم، كان يستزيدني في أن أحدثه بالتفصيل عن الجولان وبقية الأراضي العربية المحتلة. وكم كان صادقاً وكبيراً في حمله هم التحرر، وبناء القوة العربية العصرية، القادرة على حماية الأوطان بالديمقراطية، والعلم، والنظرة المستقبلية التقدمية.

ومن الأشياء المميزة فيه تفاؤله الكبير، وإيمانه الثابت بقدرة الناس على التغيير، وروحه المرحة- رغم كل الظروف القاسية التي مر بها- ... وعقله المنفتح الذي يتعلم ويستفيد ولو حتى من أبسط الناس.. ولا أنسى حادثة ذات معنى رواها لي.. هي أنه عندما كان في السجن، وكانوا يأخذونهم للعمل في تكسير الأحجار وجعلها على شكل قطع صغيرة (زلط)، فكان يضرب قطعة من الزلط بالمطرقة ليكسرها فلم تتكسر معه – لأن لا خبرة له في هذا المجال- فجاء الحارس الذي كان يراقبه – وهو متعاطف معه – وأخذ المطرقة وضرب الحجر من زاوية ثانية.. فكسره... وقال له (يا أستاذ: كل حاجه وليها عشر أبواب)... وهنا قال: لقد تعلمت هذه الحكمة من ذلك الحارس.. (بصرف النظر عن الظرف الكارثي، والصورة الفاجعة للتعامل مع المفكرين بسجنهم وإجبارهم على الأشغال الشاقة ضميراً ووجداناً، قبل أن تكون شاقة عضلياً..)

- ولا أنسى أبداً، العمق الحضاري الهائل في حديثه وشخصيته، فقد سألني مرة : (عملت ايه مبارح) فقلت له: زرت منطقة الأهرامات، وأمضيت معظم النهار هناك، ورغم أنني زرتها مرات عديدة، ففي كل مرة أجد فيها متعة جديدة... فقال: وأنا أيضاً أجد متعة كبيرة كلما زرتها رغم أنني (طول عمري بازورها، ولو قلت لي كنت رحت معاك)... أي سعادة أن يكون صديقك شخص بهذا العمق الإنساني.

- يطول الحديث عن هذه الشخصية الانسانية الكبيرة، وهنالك الكثير ممن كتبوا –بشكل واف- عنه عند وفاته وفي حياته.. ولا سيما العدد المميز والهام من مجلة (أدب ونقد) الصادر في أبريل 2007، والذي ضم محوراً شاملاً ممتازاً عن (محمود أمين العالم: الفتى في الخامسة والثمانين)... ولكني هنا أقدم إطلالة شخصيته على محيط واسع.

ما زالت كلماته الأخيرة في أذني وقلبي عندما سألني: ماذا تعمل هذه الأيام؟ فأجبته أنني أشتغل على بعض الأبحاث والترجمات، فقال: "أرسل لي ما تنتجه فأنه يسعدني أن أقرأ إنتاجك.. وأن تزورني في البيت إذا جئت إلى القاهرة." فقلت له: يشرفني ذلك وسأزورك بالتأكيد...

والآن كم هي غصة كبيرة أنك /أيها الكبير/ لم تعد قادراً على أن تقرأ لي أو أن أزورك... لكن العزاء أنني سأبقى أزورك في كتاباتك وتراثك الغني الباقي أبداً.

ومن بعض العزاء الشخصي أيضاً، ما قالته لي ممرضته السيدة (منار) على الهاتف، عندما اتصلت معزياً بعد أن علمت بالوفاة، قالت: (أنه كان سعيداً جداً بمكالمتك الأخيرة له، وكان يكلمني عنها وعنك وهو مبسوط)... وأنا مرتاح فعلاً أنني أدخلت بعض السرور إليه في ساعاته الأخيرة...

إن بعض الحزن يأتي كالمطرالعاصف، يضرب بسرعة ويذهب بسرعة.. وبعضه كالمطر الهادئ المستمر، يهطل على الأرض، وتتشربه ببطء، لكن بعمق.. ويغذي التربة وينتج نباتاً وثمراً يانعاً، وهذا هو حزننا على مناضل ومبدع كبير من حجم (محمود أمين العالم)، كان في مقدمة من أناروا العقول، ورفعوا قيمة الإنسان، في مصر والبلاد العربية كلها، وهو من الشخصيات التي ساهمت في جعل العالم كله أكثر جمالاً، ولهذا سيبقى... شعلة لا تنطفئ.

إقرأ:
- نبذة عن حياة محمود أمين العالم